الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال النيسابوري في الآيات السابقة: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}التفسير: ثم أشار إلى ما كانوا يتناجون به حيث يبيتون ما لا يرضى من القول. والنجوى سر بين اثنين وكذا النجو يقال: نجوته نجواَ أي ساررته وكذلك ناجيته. قال الفراء: قد تكون النجى اسمًا ومصدرًا، والآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق بعضًا إلاّ أنها في المعنى عامة. والمراد أنه لا خير فيما يتناجى به الناس ويخوضون فيه من الحديث. {إلاّ من أمر بصدقة} وفي محل «من» وجوه مبنية على معنى النجوى.فإن كان النجوى السر جاز أن يكون من في موضع النصب لأنه استنثاء الشيء من خلاف جنسه كقوله إلاّ أواريّ ومعناه لكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير، أو في موضع الرفع كقوله: إلاّ اليعافير وإلاّ العيس. أبو عبيد جعل هذا من باب حذف المضاف معناه إلاّ نجوى من أمر على أنه مجرور بدل من كثير كما تقول: لا خير في قيامهم إلاّ قيام زيد أي في قيامه، وعلى هذا يكون الاستثناء من جنسه. وإن كان النجوى بمعنى ذوي نجوى كقوله: {وإذ هم نجوى} [الإسراء: 47] كان محله أيضًا مجرورًا من {كثير} أو من نجوى كما لو قلت: لا خير في جماعة من القوم إلاّ زيد إن شئت أتبعت زيدًا الجماعة وإن شئت أتبعته القوم. وإنما قال: {لا خير في كثير} مع أنه يصدق الحكم كليًا بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «كلام ابن آدم كله عليه لا له إلاّ ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر» أو ذكر الله استجلابًا للقلوب وليكون أدخل في الاعتراف به، وليخرج عنه الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.واعلم أن قول الخير إما أن يتعلق بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة، والأول إن كان من الخيرات الجسمانية فهو الأمر بالصدقة، وإن كان من الخيرات الروحانية بتكميل القوة النظرية أو العملية فهو الأمر بالمعروف. والثاني هو الإصلاح بين الناس فثبت أن الآية مشتملة على جوامع الخيرات ومكارم الأخلاق، وهذه الأوامر وإن كانت مستحسنة في الظاهر إلاّ أنها لا تقع في حيّز القبول إلاّ إذا عمل صاحبها بما أمر كيلا يكون من زمرة {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} [البقرة: 44] {لم تقولون ما لا تفعلون} [الصف: 1] وإلاّ إذا طلب بها وجه الله فلهذا قال: {ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا} ويمكن أن يقال: إنّ معنى {ومن يفعل} الأمر والمراد ومن يأمر فعبر عن الأمر بالفعل لأنّ الأمر فعل من الأفعال. والمراد بقوله: {من أمر} من فعل لأنّ الأمر يلزمه الفعل غالبًا. ثم قال: {ومن يشاقق الرسول} قال الزجاج: إنّ طعمة كان قد تبيّن له بما أظهر الله من أمره ما دلّه على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فعادى الرسول وأظهر الخلاف وارتد على عقبيه واتبع دين عبادة الأوثان وهو غير دبن الموحدين وسبيلهم. ومعنى {نوله ما تولى} نجعله واليًا لما اختاره لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه. قال بعض الأئمة: هذا منسوخ بآية السيف ولاسيما في حق المرتد. والظاهر أن المراد به الطبع والخذلان {ونصله جهنم} نلزمه إياها {وساءت مصيرًا} هي. وانتصب {مصيرًا} على التمييز من الضمير المبهم في ساءت لأنه يعود إلى ما في الذهن لا إلى المذكور. يحكى أنّ الشافعي سئل عن آية في كتاب الله دالّة على أن الإجماع حجة، فقرأ القرآن ثلثمائة مرة حتى وقف على هذه الآية. ووجه الاستدلال أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام لأنه تعالى جمع بين اتباع غير سبيلهم وبين مشاقة الرسول ورتب الوعيد عليهما، واتباع غير سبيل المؤمنين يلزمه عدم اتباع سبيل المؤمنين لاستحالة الجمع بين الضدين أو النقيضين. فعدم اتباع سبيل المؤمنين حرام فاتباع سبيلهم واجب كموالاة الرسول. وفي الآية دلالة على وجوب عصمة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب الاقتداء بأقواله وأفعاله وإلاّ وجب المشاقة في بعض من الأمور وهي منهي عنها في الكل. قيل: في الآية دلالة على أنه لا يمكن تصحيح الدين إلاّ بالنظر والاستدلال لأنّ الهدى اسم للدليل لا للعلم إذ لا معنى لتبيين العلم لكنه رتب الوعيد على المخالفة بعد تبيين الدليل فيكون تبيين الدليل معتبرًا في صحة الدين. وأقول: الموقوف على النظر هو معرفة وجود الواجب لذاته وصحة نبوّة النبي صلى الله عليه وسلم والباقي يكفي في اعتقاده إخبار الصادق على أن إخبار الصادق أيضًا دليل فلا حكم إلاّ عن دليل.ثم إنه كرّر في السورة قوله: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به} للتأكيد. وقيل: لقصة طعمة وإشراكه بالله. {ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالًا بعيدًا} لأنّه لا أجلى من وجود الصانع ووحدته، والمطلوب كلما كان أجلى كان نقيضه أبعد. ثم أوضح هذا المعنى بقوله سبحانه: {إن يدعون} أي ما يعبدون {من دونه إلاّ إناثًا} أي أوثانًا وكانوا يسمونها بأسماء الإناث كاللات والعزى، فاللات تأنيث الله، والعزى تأنيث الأعز. قال الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلاّ ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان ويؤيده قراءة عائشة {إلاّ أوثانًا} وقراءة ابن عباس {إلاّ أثناء} جمع وثن مثل أسد وأسد إلاّ أن الواو أبدلت همزة كأجوه. وقيل: المراد إلاّ أمواتًا لأنّ الإخبار عن الأموات يكون كالإخبار عن الإناث. تقول: هذه الأحجار أعجبتني كما تقول هذه المرأة أعجبتني، ولأن الأنثى أخس من الذكر والميت أخس من الحي. وقيل: كانوا يقولون في أصنامهم هنّ بنات الله. وقيل: إنّ بعضهم كان يعبد الملائكة ويقولون الملائكة بنات الله. {وإن يدعون} ما يعبدون بعبادة الأصنام {إلاّ شيطانًا مريدًا} بالغًا في العصيان مجردًا عن الطاعة. يقال: شجرة مرداء إذا تناثر ورقها، والأمرد ذلك الذي لم تنبت له لحية. قال المفسرون: كان في كل واحدة من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة يكلمهم. وقالت المعتزلة: جعلت طاعتهم للشيطان عبادة له لأنّه هو الذي أغراهم على عبادتها فأطاعوه. والظاهر أنّ المراد بالشيطان جامعًا بين وصف بقوله: {لعنه الله وقال لأتخذن} وهو جواب قسم محذوف أي شيطانًا جامعًا بين لعنة الله إياه وبين هذا القول الشنيع وهو الإخبار عن الاتخاذ مؤكدًا بالقسم. ويمكن أن يقال: المراد بلغته الله ما استحق به اللعن من استكباره عن السجود كقولهم: أبيت اللعن أي لا فعلت ما تستحقه به. ومعنى {نصيبًا مفروضًا} حظًا مقطوعًا واجبًا فرضته لنفسي وأصل الفرض القطع ومنه الفريضة لأنه قاطع الأعذار {وقد فرضتم لهن فريضة} [البقرة: 237] حظًا مقطوعًا واجبًا فرضته لنفس وأصل جعلتم لهن قطعة من المال. وفرض الجندي رزقه المقطوع المعين. قال الحسن: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وذلك لما روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: «يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير بيديك. قال: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون» الحديث. وههنا سؤال وهو أن حزب الشيطان وهم الذين يتبعون خطواته من الكفار والفساق لما كانوا أكثر من حزب الله فلم أطلق عليهم لفظ النصيب مع أنه لا يتناول إلاّ القسم الأقل؟ والجواب أنّ هذا التفاوت إنما يحصل من نوع البشر، أما إذا ضمّ الملائكة إليهم فالغلبة للمحقين لا محالة.وأيضًا الغلبة لأهل الحق وإن قلّوا، وغيرهم كالعدم وإن كثروا {ولأضلنهم} يعني عن الحق قالت المعتزلة: فيه دلالة على أصلين من أصولنا: الأول أنّ المضل هو الشيطان دون الله، والثاني أنّ الإضلال ليس عبارة عن خلق الكفر والضلال فإنّ الشيطان بالاتفاق لا يقدر على ذلك. وأجيب بأنّ هذا كلام إبليس فلا يكون حجة أنّ كلامه في هذه المسألة مضطرب جدًا فتارة يميل إلى القدر المحض وهو قوله: {لأضلنهم} {لأغوينهم} [ص: 82] وأخرى إلى الجبر المحض كقوله: {رب بما أغويتني} [الأعراف: 16] {ولأمنينهم} الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال واقتحام الأهوال وانتظام الأحوال فلا يكاد يقدم على التوبة والإقبال على تهيئة زاد الآخرة حتى يصير قلبه كالحجارة أو اشد قسوة. {ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام} البتك القطع، وسيف باتك أي صارم، والتبتيك التقطيع شدّد للكثرة. وجمهور المفسرين على أنّ المراد به هاهنا قطع آذان البحائر كانوا يشقون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن إذا جاء الخامس ذكرًا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ويسمونها بحيرة. وقال بعضهم: كانوا يقطعون آذان الأنعام نسكًا في عبادة الأوثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق. قوله: {فليبتكن} صيغة غابر للغائبين واللام لجواب قسم آخر أي فوالله ليبتكن وأصله ليبتكون، فلما دخلت النون الثقيلة سقطت نون الرفع ولتوالي الأمثال وواو الجمع لالتقاء الساكنين واكتفى بالضمة، والفاء للتسبيب والإيذان يتلازم ما قبلها وما بعدها والجملة كالتفسير لقوله: {ولآمرنهم} ومثله في الإعراب قوله: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} والمراد من التغيير إما المعنوي وإما الحسي. فمن الأول قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن الضحاك ومجاهد والنخعي وقتادة والسدي أنه تغيير دين الله بتبديل الحرام حلالًا وبالعكس، أو بإبطال الاستعداد الفطري {فطرت الله التي فطر الناس عليها} [الروم: 30] «كل مولود يولد على الفطرة» ومن الثاني قول الحسن المراد ما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الواشمات والواشرات والمتنمصات» وذلك أنّ المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا. أما وشم اليد فهو أن يغرزها بالإبرة ثم يذر عليها النيل. والوشر تحديد الأسنان، والتنميص نتف شعر الحاجب وغيره. وقال أنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأبو صالح: تغيير خلق الله هو الخصاء وقطع الآذان وفقء العيون. وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفًا أعور وأعين فحلها. وخصاء البهائم مباح عند عامة العلماء وأما في بني آدم فمحظور. وعند أبي حنيفة يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم لأنّ الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم. وقال ابن زيد: هو التخنث تشبه الذكر بالأنثى. وعلى هذا فالسحق أيضًا داخل في الآية لأنّه تشبه الأنثى بالذكر. وحكى الزجاج عن بعضهم أن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب، وخلق الشمس والقمر مسخرين للناس ينتفعون بهما فعبدوهما فغيروا خلق الله.واعلم أن دخول الضرر في الإنسان إنما يكون على ثلاثة أوجه: التشويش والنقصان والبطلان، فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في ضرر الدين وهو قوله: {لأضلنهم} ثم فصل ذلك بقوله: {ولأمنينهم} وهو الضرر من جنس التشويش لأن صاحب الأماني يتشوّش فكره في استخراج الحيل الدقيقة والوسائل اللطيفة في تحصيل مطالبة الشهوية والغضبية والشيطانية. وقوله: {ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام} إشارة إلى الضرر بالنقصان لأنّ الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف العزم في طلب الآخرة. وقوله: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} إشارة إلى البطلان لأن من بقي مواظبًا على طلب اللذات العاجلة معرضًا عن السعادات الباقية فلا يزال يتزايد ميله وركونه إلى الدنيا حتى يتغير قلبه بالكلية ولا يخطر بباله ذكر الآخرة. {ومن يتخذ الشيطان وليًا من دون الله} بأن فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به {فقد خسر خسرانًا مبينًا} إذ فاته أشرف المطالب بسبب الاشتغال بأخسها. والسبب فيه أنّ الشيطان يعدهم ويمنيهم فيقول للشخص إنه سيطول عمره وينال من الدنيا مقصوده ويستولي على أعدائه ويوقع في قلبه أن الدنيا دول فربما تيسرت لي كما تيسرت لغيري {وما يعدهم الشيطان إلاّ غرورًا} لأنه ربما لم يطل عمره، وإن طال فربما لم يجد مطلوبه، وإن طال عمره ونال مأموله على أحسن الوجوه فلابد أن يكون عند الموت في أشد حسرة وأبلغ حيرة لأنّ المطلوب كلما كان ألذ وأشهى وكان الإلف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته آلم وأنكى. وأيضًا لعل الشيطان يعدهم أنه لا قيامة ولا حساب ولا جزاء ولا عقاب فاجتهدوا في استيفاء اللذات العاجلة واغتنموا فرصة الحياة الزائلة فلذلك قيل: {أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصًا} مفرًا ومعدلًا وله معنيان: أحدهما لابد لهم من ورودها، الثاني التخليد بمعنى الدوام للكفار أو طول المكث للفساق.
|